فصل: قضاء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


أسباب القصاص فيما دون النفس

36 - للقصاص فيما دون النفس أسباب هي‏:‏ إبانة الأطراف وما يجري مجرى الأطراف، وإذهاب معاني الأطراف مع بقاء عينها والمقصود بها المنافع، والشّجاج وهي الجراح في الرأس والوجه، والجراح في غير الرأس والوجه‏.‏

وينظر تفصيل أحكامها في مصطلح ‏(‏جناية على ما دون النفس ف / 13 - 32‏)‏ ومصطلح ‏(‏جراح ف / 8 - 10‏)‏، ومصطلح ‏(‏شجاج ف / 4 - 11‏)‏‏.‏

شروط القصاص فيما دون النفس

37 - يشترط للقصاص فيما دون النفس شروط هي‏:‏ أن يكون الفعل عمداً، وأن يكون الفعل عدواناً، والتكافؤ في الدّين، والتكافؤ في العدد، والمماثلة في المحلّ، والمماثلة في المنفعة، وإمكان الاستيفاء من غير حيف‏.‏

وينظر تفصيل أحكامها في مصطلح ‏(‏جناية على ما دون النفس ف / 4 - 11‏)‏‏.‏

أثر السّراية في القصاص فيما دون النفس

38 - سراية الجناية مضمونة بلا خلاف بين الفقهاء لأنها أثر الجناية، والجناية مضمونة وكذلك أثرها، ثم إن سرت إلى النفس كأن يجرح شخصاً عمداً فصار ذا فراش ‏"‏ أي ملازماً لفراش المرض ‏"‏ حتى يحدث الموت، أو سرت إلى ما لا يمكن مباشرته بالإتلاف، كأن يجني على عضو عمداً فيذهب أحد المعاني كالبصر والسمع ونحوهما وجب القصاص بلا خلاف‏.‏ والتفصيل في مصطلح ‏(‏سراية ف / 4‏)‏‏.‏

القصاص في الجنايتين

39 - إذا قَطَعَ أصبعَ آخر من منتصف المفصل، ثم قطعها من المفصل بعد ذلك، فقد ذهب الحنفية إلى أن الجناية الثانية إن كانت قبل البرء من الأولى اقتص منه من المفصل‏;‏ لأنه قطع واحد في الحكم، ولو كانت الجناية الثانية بعد البرء من الأولى لم يقتص منه‏;‏ لأن الجناية الأولى لا قصاص فيها‏;‏ لأنها ليست من المفصل فتعذرت المساواة، والثانية قطع لعضو ناقص فلا قصاص فيها أيضاً‏.‏

ولو قطع يد رجل ثم قتله، فإن برئ بعد القطع اقتص منه بالقطع والقتل‏;‏ لأن كل جناية منهما مستقبلة فيقاد بها، وإن لم يبرأ بعد القطع فقولان للحنفية، قول لأبي حنيفة وهو الظاهر بأنهما كجنايتين فيقطع ويقتل كما إذا برئ، وقول للصاحبين يقتل ولا يقطع‏.‏

وأطلق الشافعية القول بوجوب القصاص في الجنايتين إذا كانت كلّ منهما توجب القصاص، من غير اشتراط البرء أو عدمه، قال الشّيرازيّ‏:‏ وإن جنى على رجل جنايةً يجب فيها القصاص ثم قتله وجب القصاص فيهما‏;‏ لأنهما جنايتان يجب القصاص في كلّ واحدة منهما، فوجب القصاص فيهما عند الاجتماع، كقطع اليد والرّجل‏.‏

فإذا جنى على اثنين فقطع يمين كلّ منهما اقتص منه بقطع يمينه، ثم إن حضرا معاً فلهما أن يقطعا يمينه، ويأخذا منه ديةً بينهما نصفين، وإن حضر الأول فقطع له، ثم حضر الثاني فله الدّية وحده - دية اليد - وهذا عند الحنفية والحنابلة‏.‏

وذهب المالكية إلى أن القطع يندرج في القتل سواء أكانت الجنايتان على واحد أو على أكثر من واحد ما لم يقصد مثلةً، فإن قصد مُثْلَةً لم تندرج الجناية على ما دون النفس في الجناية على النفس إن كانتا على واحد، فإن تعدد المجنيّ عليهم اندرجت مطلقاً، وقال الزرقانيّ‏:‏ واندرج في قتل النفس طرف إن تعمده ثم قتله، وإن كان الطرف لغيره كقطع يد شخص وفقء عين آخر وقتل آخر عمداً فيندرجان في النفس، ثم قال‏:‏ لم يقصد مثلةً، خاصّ بطرف المجنيّ عليه الذي قتله بعد قطع طرفه، أما طرف غيره فيندرج‏.‏

سقوط القصاص فيما دون النفس

40 - يسقط القود فيما دون النفس بموت الجاني قبل القصاص لفوات محلّه، كما يسقط بعفو المجنيّ عليه أو صلحه، وكذلك بعفو الأولياء إن مات أو صالحهم أو صالح أحدهم على مال وإن قل، وكذلك بفوات محلّ القصاص في الجاني‏.‏

طريقة استيفاء القصاص فيما دون النفس

41 - يكون القصاص فيما دون النفس بالآلة المناسبة له، كالسّكّين وما سواها كي لا يتعدى القصاص الجناية‏;‏ لأن ذلك شرط فيه، وعلى ذلك فلا يقتصّ بالسيف في الجراح، لأنه قد يتعدى الجرح المراد فيهشّم العظم‏.‏

ويجب أن يكون المستوفي عالماً بطريقة القطع ومقداره لئلا يجاوز الحد كالطبيب الجراح ونحوه‏.‏ فإذا كان المجنيّ عليه عالماً بذلك مُكّن من الاقتصاص إن قدر عليه، وإلا قام به نائب الإمام المفوض والعالم بذلك‏.‏

من يستوفي القصاص فيما دون النفس

42 - ذهب الحنفية وهو ظاهر كلام أحمد إلى أنه يجوز لوليّ الدم القصاص فيما دون النفس إذا كان عالماً بالجراحة‏.‏

وذهب المالكية والشافعية وفي قول عند الحنابلة إلى أن ولي الدم لا يمكَّن من الاستيفاء بنفسه، ولا يليه إلا نائب الإمام‏;‏ لأنه لا يؤمن مع قصد التشفّي أن يجني عليه بما لا يمكن تلافيه‏.‏

قَصَبة

انظر‏:‏ مقادير‏.‏

قصد

انظر‏:‏ نية‏.‏

قصر الصلاة

انظر‏:‏ صلاة المسافر‏.‏

قَصَّة

التعريف

1 - القَصّة - بالفتح - في اللّغة‏:‏ الجصّ بلغة الحجاز، وجاء في الحديث على التشبيه‏:‏ «لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء»، قال أبو عبيد‏:‏ معناه أن تخرج القطنة والخرقة التي تحتشي بها المرأة كأنها قصة لا يخالطها صفرة، وقيل‏:‏ المراد النقاء من أثر الدم، ورؤية القصة مثل لذلك‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ قال الزيلعيّ‏:‏ القَصة شيء يشبه الخيط الأبيض يخرج من قُبل النّساء في آخر أيامهن يكون علامةً على طهرهن‏.‏ وقيل‏:‏ هو ماء أبيض يخرج في آخر الحيض‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الجفوف‏:‏

2 - الجفوف‏:‏ هو أن تدخل المرأة الخرقة فتخرجها جافةً ليس عليها شيء من الدم ولا من الصّفرة والكدرة‏.‏

وكلّ من القَصة والجفوف علامة على الطّهر‏.‏

الحكم الإجماليّ

3 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أن كلّاً من القصة البيضاء والجفوف علامة للطّهر، فإذا رأت المرأة أيّاً منهما عقب الحيض طهرت به، سواء كانت المرأة ممن عادتها أن تطهر بالقصة أو بالجفوف‏.‏

قال ابن عابدين من الحنفية‏:‏ لو وضعت الكرسف في الليل وهي حائضة أو نفساء فنظرت في الصباح فرأت عليه البياض الخالص حكم بطهارتها من حين وضعت للتيقّن بطهارتها وقته‏.‏

وقد اختلفت عبارات الحنفية في اعتبار الجفوف علامةً للطّهر، وقد عبر ابن نجيم عن هذا الاختلاف بقوله‏:‏ وفي فتح القدير‏:‏ ومقتضى المرويّ في الموطأ والبخاريّ أن مجرد الانقطاع دون رؤية القصة لا يجب معه أحكام الطاهرات، وكلام الأصحاب فيما يأتي كلّه بلفظ الانقطاع، حيث يقولون‏:‏ وإذا انقطع دمها فكذا، مع أنه قد يكون الانقطاع بجفاف من وقت إلى وقت ثم ترى القصة، فإن كانت الغاية القصة لم تجب تلك الصلاة، وإن كان الانقطاع على سائر الألوان وجبت، وأنا متردّد فيما هو الحكم عندهم بالنظر إلى دليلهم وعباراتهم في إعطاء الأحكام‏.‏ وألله أعلم، ورأيت في مرويّ‏:‏ عبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عن ريطة مولاة عمرة عن عمرة أنها كانت تقول للنّساء‏:‏ إذا أدخلت إحداكن الكرسف فخرجت متغيّرةً فلا تصلّي حتى لا ترى شيئاً، وهذا يقتضي أن الغاية الانقطاع‏.‏

وقد يقال هذا التردّد لا يتمّ إلا إذا فسّرت القصة بأنها بياض ممتدّ كالخيط، والظاهر من كلامهم ضعف هذا التفسير، فقد قال في المغرب‏:‏ قال أبو عبيدة‏:‏ معناه‏:‏ أن تخرج القطنة أو الخرقة التي تحتشي بها المرأة كأنها قصة لا تخالطها صفرة ولا تُرَبِيّة، ويقال إن القصة شيء كالخيط الأبيض يخرج بعد انقطاع الدم كلّه، ويجوز أن يراد بها انتفاء اللون وأن لا يبقى منه أثر ألبتة، فضرب رؤية القصة مثلاً لذلك‏;‏ لأن رائي القصة غير رائي شيء من سائر ألوان ما تراه الحائض‏.‏

فقد علمت أن القصة مجاز عن الانقطاع، وأن تفسيرها بأنها شيء كالخيط ذكره بصيغة ‏"‏ يقال ‏"‏ الدالة على التمريض، ويدلّ على أن المراد بها الانقطاع، وهو المذهب - آخر الحديث‏:‏ حديث عائشة رضي الله عنها، وهو قوله‏:‏ «تريد بذلك الطّهر من الحيض»، فثبت بذلك أن دليلهم موافق لعباراتهم كما لا يخفى‏.‏

وقال المالكية‏:‏ علامة الطّهر جفوف أو قصة - وهي أبلغ - فتنتظرها معتادتها لآخر الوقت المختار، بخلاف معتادة الجفوف، فلا تنتظر ما تأخرَ منهما كالمبتدأة، أي أن علامة الطّهر أي انقطاع الحيض أمران‏:‏ الجفوف، أي خروج الخرقة خاليةً من أثر الدم وإن كانت مبتلةً من رطوبة الفرج، والقصة وهي ماء أبيض كالمنيّ أو الجير المبلول، والقصة أبلغ‏:‏ أي أدلُّ على براءة الرحم من الحيض، فمن اعتادتها أو اعتادتهما معاً طهرت بمجرد رؤيتها فلا تنتظر الجفوف، وإذا رأته ابتداءً انتظرتها لآخر المختار، بحيث توقع الصلاة في آخره، وأما معتادة الجفوف فقط، فمتى رأته أو رأت القصة طهرت، ولا تنتظر الآخر منهما، وكذا المبتدأة التي لم تعتد شيئاً، هذا هو الراجح، ومقتضى أبلغية القصة أنها إن رأت الجفوف أولاً انتظرت القصة‏.‏ وقال النوويّ‏:‏ علامة انقطاع الحيض ووجود الطّهر‏:‏ أن ينقطع خروج الدم وخروج الصّفرة والكدرة، فإذا انقطع طهرت سواء أخرجت بعده رطوبة بيضاء أم لا‏.‏

وقال الزركشيّ من الحنابلة‏:‏ إذا كانت للمرأة عادة، كأن كانت تحيض عشرة أيام مثلاً من كلّ شهر فرأت الطّهر قبل انقضائها، فإن رأته بعد مضيّ ستة أيام ونحو ذلك فهي طاهر، لظاهر ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها للنّسوة‏:‏ «لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء» وهذه قد رأت القصة البيضاء‏.‏

قضاء

التعريف

1 - من معاني القضاء في اللّغة‏:‏ الحكم، قال أهل الحجاز‏:‏ القاضي معناه في اللّغة‏:‏ القاطع للأمور المحْكِم لها‏.‏

وأصله القطع والفصل، يقال‏:‏ قضى يقضي قضاءً فهو قاض إذا حكم وفصل‏.‏

ويأتي في اللّغة على وجوه مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه، فمن ذلك‏:‏ يطلق على الخلق والصّنع، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ أي خلقهن وصنعهن، وعلى العمل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ‏}‏ معناه فاعمل ما أنت عامل‏.‏

وعلى الحتم والأمر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً‏}‏ أي أمر ربّك وحتم‏.‏ وعلى الأداء تقول‏:‏ قضيت ديني أي أديته ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ‏}‏ أي أديتموها‏.‏

وعلى الإبلاغ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ‏}‏، أي أبلغناه ذلك‏.‏

وعلى العهد والوصية ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ‏}‏ أي عهدنا وأوصينا‏.‏

وعلى الإتمام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ‏}‏ أي أتممنا عليه الموت‏.‏

وعلى بلوغ الشيء ونواله تقول‏:‏ قضيت وطري أي بلغته ونلته، وقضيت حاجتي كذلك‏.‏ والقضاء المقترن بالقدر‏:‏ هو عبارة عن الحكم الكلّيّ الإلهيّ في أعيان الموجودات على ما هي عليه من الأحوال الجارية في الأزل إلى الأبد‏.‏

والقضاء في الإصلاح‏:‏ عرفه الحنفية بأنه‏:‏ فصل الخصومات وقطع المنازعات، وزاد ابن عابدين‏:‏ على وجه خاصّ، حتى لا يدخل فيه نحو الصّلح بين الخصمين‏.‏

وعرفه المالكية بأنه‏:‏ الإخبار عن حكم شرعيّ على سبيل الإلزام‏.‏

وعرفه الشافعية بأنه‏:‏ إلزام من له إلزام بحكم الشرع‏.‏

وعرفه الحنابلة بأنه‏:‏ تبيين الحكم الشرعيّ والإلزام به وفصل الخصومات‏.‏

2 - وقد استعمل الفقهاء لفظ ‏"‏ القضاء ‏"‏ في غير ما تقدم في العبادات، للدلالة على فعلها خارج وقتها المحدود شرعاً وينظر ما يتعلق بذلك في مصطلحات، ‏(‏صوم ف / 86 - 89، وحجّ ف / 123، وقضاء الفوائت‏)‏‏.‏

كما استعملوا عبارة ‏"‏ قضاء الدين ‏"‏ للدلالة على سداد الدين والوفاء به، انظر مصطلحي‏:‏ ‏(‏دين ف 70، وأداء ف / 29‏)‏‏.‏

واستعملوا عبارة ‏(‏قضاء الحاجة‏)‏ للدلالة على آداب التخلّي‏.‏

انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏استتار ف / 7، وقضاء الحاجة‏)‏‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الفتوى‏:‏

3 - الفتوى والفتوى والفتيا في اللّغة‏:‏ ما أفتى به الفقيه‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ تبيين الحكم الشرعيّ للسائل عنه‏.‏ فالقضاء يكون على وجه الإلزام، والفتوى من غير إلزام، فهما يجتمعان في إظهار حكم الشرع في الواقعة، ويمتاز القضاء عن الفتوى بالإلزام‏.‏

ب - التحكيم‏:‏

4 - التحكيم في اللّغة‏:‏ مصدر حكمه في الأمر والشيء أي‏:‏ جعله حكماً، وفوض الحكم إليه‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ تولية الخصمين حاكماً يحكم بينهما‏.‏

والفرق بينه وبين القضاء‏:‏ أن القضاء من الولايات العامة، والتحكيم تولية خاصة من الخصمين، فهو فرع من فروع القضاء لكنه أدنى درجةً منه‏.‏

ج - الحسبة‏:‏

5 - الحسبة في اللّغة‏:‏ اسم من الاحتساب ومن معانيها‏:‏ الأجر، وحسن التدبير والنظر، ومنه قولهم‏:‏ فلان حسن الحسبة في الأمر إذا كان حسن التدبير له‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ عرفها جمهور الفقهاء بأنها الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله‏.‏

والصّلة بين الحسبة والقضاء‏:‏ أنهما يتفقان في أن لكلّ من المحتسب والقاضي نظر أنواع مخصوصة من الدعاوى وهي التي تتعلق بمنكر ظاهر من بخس أو تطفيف الكيل أو الوزن، وغشّ البيع أو تدليس فيه أو في ثمنه، والمطل في أداء الدين مع مكنة الوفاء‏.‏

وتقصر الحسبة عن القضاء بالنّسبة لسماع عموم الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات، وكذلك ما يدخله التجاحد والتناكر، فلا يجوز للمحتسب النظر فيها، إذ ليس له أن يسمع بيّنةً على إثبات الحقّ أو يحلف يميناً على نفيه‏.‏

وتزيد الحسبة عن القضاء في أن المحتسب ينظر في وجوه ما يعرض له من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن لم يحضره خصم يستعديه بخلاف القاضي، كما أن للمحتسب بما له من قوة السّلطة والرهبة فيما يتعلق بالمنكرات أن يظهر الغلظة والقوة، ولا يعتبر ذلك منه تجوّزاً ولا خرقاً لولايته، أما القضاء فهو موضوع للمناصفة، فهو بالوقار والأناة أخصّ‏.‏

د - ولاية المظالم‏:‏

6 - المظالم في اللّغة‏:‏ جمع مظلمة، يقال‏:‏ ظلمه يظلمه ظلماً وظلماً ومظلمةً، ويقال‏:‏ تظلم فلان إلى الحاكم من فلان فظلمه تظليماً أي أنصفه من ظالمه وأعانه عليه‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، ووالي المظالم له من النظر ما للقضاة وهو أوسع منهم مجالاً، وأعلى رتبةً، إذ النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة، وهي ولاية ممتزجة من سطوة السّلطة، ونصفة القضاء‏.‏

الحكم التكليفيّ

7 - القضاء مشروع وثبتت مشروعيته بالكتاب والسّنة والإجماع‏.‏

أما الكتاب‏:‏ فقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ‏}‏‏.‏

وأما السّنة‏:‏ فما روى عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم واجتهد ثم أخطأ فله أجر»، وقد «تولاه النبيّ صلى الله عليه وسلم وبعث عليّاً إلى اليمن قاضياً، وبعث معاذاً قاضياً»، كما تولاه الخلفاء الراشدون من بعده وبعثوا القضاة إلى الأمصار‏.‏

وأما الإجماع‏:‏ فقد أجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاة والحكم بين الناس‏.‏

8- والأصل في القضاء أنه من فروض الكفاية، فإذا قام به الصالح له سقط الفرض فيه عن الباقين، وإن امتنع كلّ الصالحين له أثموا‏.‏

أما كونه فرضاً فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ‏}‏، ولأن طباع البشر مجبولة على التظالم ومنع الحقوق وقل من ينصف من نفسه، ولا يقدر الإمام على فصل الخصومات بنفسه، فدعت الحاجة إلى تولية القضاة‏.‏

وأما كونه على الكفاية فلأنه أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر وهما على الكفاية‏.‏

والقضاء من القرب العظيمة، ففيه نصرة المظلوم وأداء الحقّ إلى مستحقّه وردّ الظالم عن ظلمه، والإصلاح بين الناس، وتخليص بعضهم من بعض وقطع المنازعات التي هي مادة الفساد‏.‏

9- والقضاء تعتريه الأحكام الخمسة‏:‏ فيجب على من يصلح للقضاء إذا طلب له، لكنه لا يتعين عليه إلا إذا لم يوجد من يصلح له من أهل البلد سواه ففي هذه الحالة يكون فرض عين عليه، ولو امتنع عن القبول يأثم كما في سائر فروض الأعيان‏.‏

ويرى المالكية أنه يجب قبول القضاء على من يخاف فتنةً على نفسه أو على غيره إن لم يتول، أو من يخاف ضياع الحقّ له أو لغيره إن امتنع‏.‏

أما إذا كان في البلد عدد يصلح للقضاء فإن عرض على أحدهم فالأفضل له القبول في أحد قولين عند الحنفية اقتداءً بالأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، والقول الثاني عند الحنفية‏:‏ الأفضل تركه‏.‏

ويندب له القبول كذلك إذا كان في البلد من يصلح ولكنه هو أفضل من غيره‏.‏

وعند المالكية يستحبّ له القبول إذا كان عالماً فقيراً ليسد خلته من بيت المال، أو كان عالماً خامل الذّكر لينتشر علمه وينتفع به‏.‏

وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن القيام بالقضاء يكون مباحاً إذا كان القادر عليه من أهل العدالة، والاجتهاد، ويوجد غيره مثله، قال الشافعية‏:‏ وسئل بلا طلب، فله أن يلي القضاء بحكم حاله وصلاحيته وله أن يمتنع‏;‏ لأنه قد يقوم به غيره‏.‏

ويرى الحنفية أن الدّخول في القضاء مختاراً رخصة طمعاً في إقامة العدل، والترك عزيمة فلعله لا يوفق له‏.‏

ويكون مكروهاً إذا كان القصد منه تحصيل الجاه والاستعلاء على الناس، أو كان غنيّاً عن أخذ الرّزق على القضاء، وكان مشهوراً لا يحتاج أن يشهر نفسه وعلمه بالقضاء، أو كان غيره أصلح منه للقضاء‏.‏

ويحرم على الشخص تولّي القضاء إذا كان جاهلاً ليس له أهلية القضاء، أو هو من أهل العلم لكنه عاجز عن إقامة وظائفه، أو كان متلبّساً بما يوجب فسقه، أو كان قصده الانتقام من أعدائه، أو أخذ الرّشوة وما أشبه ذلك من المقاصد‏.‏

وعند الحنفية يكره تحريماً تقلّد القضاء لمن يخاف الحيف فيه، بأن يظن أنه قد يجور في الحكم، أو يرى في نفسه العجز عن سماع دعاوى كلّ الخصوم، وهذا إذا لم يتعين عليه، فإن تعين عليه أو أمن الخوف فلا يكره‏.‏

10 - ويجب على الإمام أن ينصب القضاة في البلدان‏;‏ لأن الإمام هو المستخلف على الأمة والقائم بأمرها، والمتكلّم بمصلحتها، والمسئول عنها، فتقليد القضاة من جهته يتعين عليه لدخوله في عموم ولايته‏;‏ ولأن التقليد لا يصحّ إلا من قبله‏.‏

حكمة القضاء

11 - الحكمة من القضاء‏:‏ رفع التهارج وردّ النوائب، وقمع الظالم ونصر المظلوم، وقطع الخصومات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه وضع الشيء في محلّه، ليكف الظالم عن ظلمه‏.‏

طلب القضاء

12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يكره للإنسان طلب القضاء والسعي في تحصيله، لما روى أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدّده»، لكن بعض الفقهاء يقيّد الكراهة هنا بوجود من هو أفضل من طالب القضاء ممن هو قادر على القيام به ويرضى بأن يتولاه، وقيل‏:‏ بل يحرم عليه الطلب إن كان غيره أصلح للقضاء، وكان الأصلح يقبل التولية‏.‏ فإن تعين شخص للقضاء بأن لم يصلح غيره لزمه طلبه إن لم يعرض عليه، وذلك لحاجة الناس إليه، ومحلّ وجوب الطلب إذا ظن الإجابة فإن تحقق أو غلب على ظنّه عدمها لم يلزمه، ويندب الطلب إن كان خاملاً يرجو به نشر العلم أو محتاجاً للرّزق، أو إذا كانت الحقوق مضاعةً لجور أو عجز، أو فسدت الأحكام بتولية جاهل، فيقصد بالطلب تدارك ذلك، وقد أخبر الله تعالى عن نبيّه يوسف صلوات الله وسلامه عليه أنه طلب، فقال‏:‏ ‏{‏اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ‏}‏، وإنما طلب ذلك شفقةً على خلق الله لا منفعة نفسه‏.‏ ويحرم طلب القضاء إذا كان فيه مباشر قد توافرت فيه أهلية القضاء والطالب يروم عزله ولو كان الطالب أهلاً للقضاء، لما فيه من إيذاء القائم به، فإن لم يكن فيه مباشر أهل لم يحرم طلبه، كما يحرم الطلب لجاهل وطالب دنيا‏.‏

بذل المال لتولّي القضاء

13 - اتفق الفقهاء على أنه يحرم بذل المال لينصب قاضياً، وأن ذلك يدخل في عموم نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرّشوة‏.‏

وقيد الحنفية والمالكية والشافعية الحرمة بما إذا كان طالب القضاء لا يستحقّ التولية لفقده شروط التولية أو بعضها، أو لم يكن القضاء متعيناً عليه‏.‏

وكره الشافعية بذل المال إذا كان طلبه مكروهاً‏.‏

وذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى جواز بذل المال إذا كان القضاء واجباً على الباذل لتعيّن فرضه عليه عند انفراده بشروط القضاء، وزاد الشافعية وجهاً آخر للإباحة، وهو ما إذا كان مستحبّاً له الطلب ليزيل جور غيره أو تقصيره‏.‏

الإجبار على القضاء

14 - إذا تعين القضاء على من هو أهل له، فهل يجبر على القبول لو امتنع‏؟‏

اختلف الفقهاء في ذلك‏:‏ فذهب المالكية والحنابلة والحنفية في أحد الوجهين والشافعية في الأصحّ إلى أن للإمام إجبار أحد المتأهّلين إذا لم يوجد عنه عوض، وعلل الشافعية ذلك بأن الناس مضطرّون إلى علمه ونظره، فأشبه صاحب الطعام إذا منعه المضطر‏.‏

والوجه الآخر عند الحنفية وهو مقابل الأصحّ عند الشافعية يذهب إلى أن من تعين عليه يفترض عليه القبول، فإن امتنع لا يجبر‏.‏

وقد أراد عثمان رضي الله عنه تولية ابن عمر رضي الله عنهما القضاء، فقال لعثمان‏:‏ أوتعافيني يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏:‏ فما تكره من ذلك وقد كان أبوك يقضي‏؟‏ فقال‏:‏ إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من كان قاضياً فقضى بالعدل فبالحريّ أن ينقلب منه كفافاً»، وفي رواية‏:‏ «فأعفاه وقال‏:‏ لا تجبرن أحداً»‏.‏

ونقل عن الإمام أحمد ما يدلّ على أنه إذا لم يوجد غيره وأبى الولاية أنه لا يأثم، وحمل كلام الإمام أحمد على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السّلطان أو غيره، فإن أحمد قال‏:‏ لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس‏؟‏‏.‏

الترغيب في القضاء

15 - مكانة القضاء من الدّين عظيمة، وبالقيام به قامت السموات والأرض وهو من جملة ما كلّف به الأنبياء والرّسل قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى‏}‏، وقال تعالى مخاطباً خاتم رسله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ‏}‏، فولاية القضاء رتبة دينية ونصبة شرعية، وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به وأداء الحقّ فيه، والواجب اتّخاذ ولاية القضاء ديناً وقربةً فإنها من أفضل القربات إذا وفّيت حقها، و «إنما الأعمال بالنّيات وإنما لكلّ امرئ ما نوى»، وجعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم من النّعم التي يباح الحسد عليها فقد جاء من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا حسد إلا في اثنتين‏:‏ رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحقّ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها»، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا»، فكذلك كان العدل بين الناس من أفضل أعمال البرّ وأعلى درجات الأجر قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏، فأي شيء أشرف من محبة الله تعالى‏.‏

ولعلوّ رتبته وعظيم فضله جعل الله فيه أجراً مع الخطأ، وأسقط عنه حكم الخطأ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» وإنما أجر على اجتهاده وبذل وسعه لا على خطئه‏.‏

الترهيب من القضاء

16 - كان كثير من السلف الصالح يحجم عن تولّي القضاء ويمتنع عنه أشد الامتناع حتى لو أوذي في نفسه، وذلك خشيةً من عظيم خطره كما تدلّ عليه الأحاديث الكثيرة وألتي ورد فيها الوعيد والتخويف لمن تولى القضاء ولم يؤدّ الحق فيه، كحديث‏:‏ «إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان»، وحديث‏:‏ «من ولي القضاء أو جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكّين»، وحديث‏:‏ «القضاة ثلاثة‏:‏ قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل قضى بغير الحقّ فعلم ذاك فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحقّ فذلك في الجنة»‏.‏

ويرى بعض العلماء أن كل ما جاء من الأحاديث التي فيها تخويف ووعيد إنما هي في حقّ قضاة الجور والجهال الذين يدخلون أنفسهم في هذا المنصب بغير علم، وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكّين» فقد قال بعض أهل العلم‏:‏ هذا الحديث دليل على شرف القضاء وعظيم منزلته وأن المتولّي له مجاهد لنفسه وهواه، وهو دليل على فضيلة من قضى بالحقّ إذ جعله ذبيح الحقّ امتحاناً، لتعظم له المثوبة امتناناً، فالقاضي لما استسلم لحكم الله وصبر على مخالفة الأقارب والأباعد في خصوماتهم، فلم تأخذه في الله لومة لائم حتى قادهم إلى أمر الحقّ وكلمة العدل، وكفهم عن دواعي الهوى والعناد، جعل ذبيح الحقّ لله وبلغ به حال الشّهداء الذين لهم الجنة، فالتحذير الوارد من الشرع إنما هو عن الظّلم لا عن القضاء، فإن الجور في الأحكام واتّباع الهوى فيه من أعظم الذّنوب وأكبر الكبائر، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا‏}‏، فالأحاديث السابقة بجملتها، بعضها مرغّب وبعضها مرهّب، والمرغّب منها محمول على الصالح للقضاء المطيق لحمل عبئه، والقيام بواجبه، والمرهّب منها محمول على العاجز عنه، وعلى ذلك يحمل دخول من دخل فيه من العلماء، وامتناع من امتنع عنه، فقد تقلده بعد المصطفى صلوات الله عليه وسلامه الخلفاء الراشدون، سادات الإسلام وقضوا بين الناس بالحقّ، ودخولهم فيه دليل على علوّ قدره، ووفور أجره، فإن من بعدهم تبع لهم، وَوَلِيَهُ بعدهم أئمة المسلمين من أكابر التابعين وتابعيهم، ومن كره الدّخول فيه من العلماء مع فضلهم وصلاحيتهم وورعهم محمول كرههم على مبالغة في حفظ النفس، وسلوك لطريق السلامة، ولعلهم رأوا من أنفسهم فتوراً أو خافوا من الاشتغال به الإقلال من تحصيل العلوم‏.‏

وممن امتنع عن تولّي القضاء بعد أن طلب له سفيان الثوريّ وأبو حنيفة والشافعيّ‏.‏

أركان القضاء وأحكامها

17 - أركان القضاء كما يلي‏:‏

أولاً‏:‏ القاضي‏.‏

ثانياً‏:‏ المقضيّ به‏.‏

ثالثاً‏:‏ المقضيّ له‏.‏

رابعاً‏:‏ المقضيّ فيه‏.‏

خامساً‏:‏ المقضيّ عليه‏.‏

سادساً‏:‏ الحكم‏.‏

وتفصيل حكم كلّ ركن منها فيما يلي‏:‏

أولاً‏:‏ القاضي

للقاضي أحكام كثيرة، منها ما يتعلق بشروط أهليته للقضاء، وأحكام انعقاد ولايته وعزله واعتزاله، ومنها ما يتصل بآداب مهنته، ومسئوليته، إلى غير ذلك من الأحكام التي ستبيّن تفصيلاً فيما يلي‏:‏

أ - أهلية القاضي‏:‏

18 - يشترط الفقهاء لصحة تولية القاضي شروطاً معينةً، ويتفقون فيما بينهم على اشتراط كون القاضي مسلماً، عاقلاً، بالغاً، حرّاً‏.‏

ويختلفون فيما عدا ذلك من الشّروط على الوجه الآتي‏:‏

يرى الحنفية أن من يصحّ توليته القضاء هو من يكون أهلاً لأداء الشهادة على المسلمين، وشروط الشهادة هي‏:‏ الإسلام والعقل والبلوغ والحرّية، والبصر، والنّطق، والسلامة عن حدّ القذف، فلا يجوز تقليد الكافر والمجنون والصبيّ والعبد والأعمى والأخرس والمحدود في القذف‏;‏ لأن القضاء من باب الولاية، بل هو أعظم الولايات، وهؤلاء ليست لهم أهلية أدنى الولايات وهي الشهادة‏;‏ فلأن لا يكون لهم أهلية أعلاها أولى‏.‏

وأما الذّكورة فليست من شروط جواز التقليد في الجملة‏;‏ لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة، إلا أنها لا تقضي في الحدود والقصاص، لأنه لا شهادة لها في ذلك، وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة‏.‏

وأما اشتراط علم القاضي بالحلال والحرام وسائر الأحكام فقد اختلف فقهاء الحنفية في ذلك، فيرى فريق أن هذا ليس بشرط لجواز التقليد، بل هو شرط ندب واستحباب‏;‏ لأنه يمكن أن يقضي بعلم غيره بالرّجوع إلى فتوى غيره من العلماء، لكن مع هذا لا ينبغي أن يَُقّلد الجاهل بالأحكام، لأن الجاهل قد يقضي بالباطل من حيث لا يشعر‏.‏

ويرى فريق آخر أنه يشترط في القاضي أن يكون عالماً بالكتاب والسّنة واجتهاد الرأي، وقد ثبت ذلك بالنصّ والمعقول، أما النصّ‏:‏ فما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه «لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له‏:‏ كيف تقضي‏؟‏ قال‏:‏ أقضي بما في كتاب الله‏:‏ قال‏:‏ فإن لم يكن في كتاب الله‏؟‏ قال‏:‏ فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أجتهد رأيي، قال‏:‏ الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم»‏.‏

وأما المعقول‏:‏ فإن القاضي مأمور بالقضاء بالحقّ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ‏}‏، وإنما يمكنه القضاء بالحقّ إذا كان عالماً بالكتاب والسّنة واجتهاد الرأي‏;‏ لأن الحوادث ممدودة، والنّصوص معدودة، فلا يجد القاضي في كلّ حادثة نصّاً يفصل به الخصومة، فيحتاج إلى استنباط المعنى من النّصوص، وإنما يمكنه ذلك إذا كان عالماً بالاجتهاد‏.‏

أما العدالة فليست بشرط لجواز التقليد لكنها شرط كمال فيجوز تقليد الفاسق وتنفذ قضاياه إذا لم يجاوز فيها حد الشرع، لأنه من أهل الشهادة فيكون من أهل القضاء‏.‏

ويرى المالكية أن شروط تولية القاضي أربعة‏:‏

أولها‏:‏ أن يكون عدلاُ، والعدالة تستلزم الإسلام، والبلوغ والعقل والحرّية وعدم الفسق‏.‏

ثانيها‏:‏ أن يكون ذكراً‏.‏

ثالثها‏:‏ أن يكون فطناً، والفطنة جودة الذّهن وقوة إدراكه لمعاني الكلام‏.‏

رابعها‏:‏ أن يكون عالماً بالأحكام الشرعية التي وُلّيَ للقضاء بها ولو مقلّداً لمجتهد على المعتمد، خلافاً لخليل حيث اشترط أن يكون مجتهداً إن وجد وإلا فأمثل مقلّد‏.‏

ويجب عندهم أن يكون القاضي سميعاً بصيراً متكلّماً فلا يجوز تولية الأعمى والأبكم والأصمّ‏.‏ واتّصافه بتلك الصّفات ابتداءً ودواماً واجب لكنها ليست شرطاً في صحة التولية إذ ينفذ حكمه إن وقع صواباً مع فقد إحدى تلك الصّفات، وفي فقد صفتين خلاف، أما في فقد الصّفات الثلاث فلا ينفذ حكمه‏.‏

وذهب الشافعية إلى أن الشرائط المعتبرة في القاضي عشرة‏:‏ الإسلام والحرّية والذّكورة والتكليف والعدالة والبصر والسمع والنّطق والاجتهاد والكفاية اللائقة بالقضاء، وفسرها بعضهم بالقوة على تنفيذ الحقّ بنفسه فلا يولى مغفل ومختلّ نظر بكبر أو مرض أو نحو ذلك‏.‏

واشتراط العدالة عند الشافعية يقتضي أن الفاسق لا تصحّ ولايته، ولا ينفذ حكمه، ولا يقبل قوله لأنه لا تقبل شهادته فعدم قبول حكمه أولى، وإذا ولّي الفاسق فالمذهب أنه لا ينفذ حكمه وقد حكى الغزاليّ أنه لا بد من تنفيذ أحكامه للضرورة لئلا تتعطل مصالح الناس‏.‏

أما الكتابة فالأصحّ عدم اشتراطها‏.‏

والاجتهاد هو العلم بالكتاب والسّنة والإجماع والقياس وأقوال العلماء ولسان العرب‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏اجتهاد ف / 5‏)‏‏.‏

أما الحنابلة فيشترطون كون القاضي بالغاً عاقلاً ذكراً حرّاً مسلماً عدلاً سميعاً بصيراً متكلّماً مجتهداً، ولا يشترط كونه كاتباً لأنه صلى الله عليه وسلم كان أمّيّاً وهو سيّد الحكام‏.‏

وشروط القضاء عند الحنابلة تعتبر حسب الإمكان، ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدلّ كلام الإمام أحمد، فيولى عند عدم الأمثل أنفع الفاسِقَيْن وأقلّهما شرّاً، وأعدل المقلّدين وأعرفهما بالتقليد، وإلا لتعطلت الأحكام واختل النّظام‏.‏

حكم تقليد المفضول

19 - اتفق الفقهاء على أنه ينبغي لمن له ولاية التقليد أن يختار للقضاء أفضل من يجد علماً ودنيا ومن هو أقدر وأولى لعفته وقوته‏;‏ لأن الإمام ينظر للمسلمين، فيجب عليه اختيار الأصلح لهم لأن الأفضل أثبت وأمكن‏.‏

واختلفوا في جواز تعيين المفضول مع وجود من هو أفضل منه، ففي قول للمالكية أن تولية المقلّد مع وجود المجتهد باطل، والقول الآخر أنها صحيحة وعليه العمل في زمن الإمام مالك وغيره من المجتهدين، وفيه خلاف عند الشافعية حكاه القاضي حسين وإمام الحرمين، قال الإمام‏:‏ فيه خلاف بين الأصوليّين، والأكثرون قالوا‏:‏ يجوز، وهو المختار، قال الماورديّ‏:‏ إن عدل عن الأفضل إلى المقصّر انعقدت ولايته لأن الزّيادة على كمال الشّروط غير معتبرة‏.‏

أما الحنابلة فقالوا‏:‏ تصحّ تولية مفضول مع وجود أفضل منه لأن المفضول من الصحابة كان يولى مع وجود الفاضل، مع الاشتهار والتكرار، ولم ينكر ذلك أحد، وقيد بعض الحنابلة صحة التولية بما إذا قصد بها مصلحةً‏.‏

ولم نقف على نصّ صريح للحنفية لكن مقتضى المذهب يجيز تولية المفضول إذ يجوز أن يكون القاضي عامّيّاً وكذلك يجوز تقليد الفاسق‏.‏

حكم تقليد المرأة القضاء

20 - سبق بيان اشتراط جمهور الفقهاء أن يكون القاضي ذكراً، وقد استدل الجمهور على عدم جواز تولية المرأة بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأةً»‏;‏ ولأن القاضي يحضر محافل الخصوم والرّجال، ويحتاج فيه إلى كمال الرأي ومشاورة العلماء، والنّساء لسن أهلاً لذلك وقد نبه الله تعالى إلى نسيانهن بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى‏}‏‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ يجوز أن تلي النّساء القضاء فيما يجوز أن تقبل شهادتهن فيه وحدهن أو مع الرّجال‏;‏ لأن في الشهادة معنى الولاية، ولا يجوز في الحدود والقصاص لأن شهادتهن لا تقبل في ذلك، وحكي عن ابن جرير الطبريّ أنه أجاز تقلّد المرأة القضاء مطلقاً، وعلل جواز ولايتها بجواز فتياها‏.‏

وقد ذهب بعض الشافعية إلى أنه لو ولى سلطان ذو شوكة امرأةً القضاء نفذ قضاؤها‏.‏

حكم تقليد الفاسق

21 - العدالة من الشّروط التي يشترطها جمهور الفقهاء فيمن يتقلد القضاء كما تقدم، وهي‏:‏ أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة عفيفاً عن المحارم، متوقّياً للمآثم، بعيداً من الرّيب، مأموناً في الرّضا والغضب، وتفصيل الكلام عن العدالة ينظر في مصطلح ‏(‏شهادة ف / 22، وعدل ف /1، 16‏)‏‏.‏

فلا يجوز عند الجمهور تولية فاسق، ولا من فيه نقص يمنع الشهادة، واستدلّوا بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا‏}‏ فأمر بالتبيّن عند قول الفاسق، ولا يجوز أن يكون القاضي ممن لا يقبل قوله ويجب التبيّن عند حكمه‏;‏ ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهداً فلئلا يكون قاضياً أولى‏.‏

قال القاضي عياض‏:‏ وفي الفاسق خلاف بين أصحابنا هل يردّ ما حكم به وإن وافق الحق، وهو الصحيح، أو يمضى إذا وافق الحق‏؟‏‏.‏

وقال النوويّ‏:‏ الوجه تنفيذ قضاء كلّ من ولاه سلطان ذو شوكة وإن كان جاهلاً أو فاسقاً‏;‏ لئلا تتعطل مصالح الناس‏.‏

وذهب الحنفية في الأصل عندهم إلى أن الفاسق يجوز تقلّده القضاء‏;‏ لأنه عندهم من أهل الشهادة فيكون أهلاً للقضاء، لكنه لا ينبغي تقليده ويأثم مقلّده، قال ابن عابدين‏:‏ والوجه تنفيذ قضاء كلّ من ولاه سلطان ذو شوكة وإن كان جاهلاً فاسقاً وهو ظاهر المذهب وحينئذ فيحكم بفتوى غيره‏.‏

قال ابن الهمام‏:‏ قال بعض المشايخ‏:‏ إذا قلّد الفاسق ابتداءً يصحّ، ولو قلّد وهو عدل ينعزل بالفسق، لأن المقلّد اعتمد عدالته، فلم يكن راضياً بتقليده دونها، وذكر الخصاف أن العدالة شرط الأولوية، فالأولى أن يكون عدلاً، لكن لو تقلد الفاسق ينفذ قضاؤه‏.‏

حكم تقليد الكافر

22 - الإسلام هو أحد الشّروط التي يشترطها الفقهاء فيمن يقلد القضاء، فلا يجوز تولية الكافر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً‏}‏، سواء أكانت توليته للقضاء بين المسلمين أم بين أهل دينه، لكن أبا حنيفة أجاز تقليده القضاء بين أهل دينه، لجواز شهادة أهل الذّمة بعضهم على بعض‏;‏ ولأنه لما جازت ولايتهم في المناكح جازت في الأحكام‏.‏

واعتباراً بالعرف الجاري في تقليدهم قال الشّربينيّ‏:‏ أما جريان العادة بنصب حاكم من أهل الذّمة عليهم فقال الماورديّ والرّويانيّ‏:‏ إنما هي زعامة ورياسة، لا تقليد حكم وقضاء، ولا يلزمهم حكمه بإلزامه بل بالتزامهم ولا يلزمون بالتحاكم عنده‏.‏

ولاية تقليد القضاء

23 - لا خلاف بين الفقهاء في أن الذي يملك ولاية تقليد القضاء هو الإمام أو نائبه‏;‏ لأن ولاية القضاء من المصالح العامة فلا يجوز إلا من جهته كعقد الذّمة‏;‏ ولأن الإمام صاحب الأمر والنهي، فلا يفتات عليه فيما هو أحقّ به، ويجوز للإمام أن يفوّض إلى شخص تولية القضاة، وليس لمن فوضه الإمام في ذلك اختيار نفسه ولا والده وولده، وقيل‏:‏ يجوز إذا كانا صالحين للولاية لأنهما يدخلان في عموم الإذن مع أهليتها‏.‏

وإذا لم يكن سلطان ولا من يجوز التقلّد منه، أو تعذر الوصول إليه فقد اختلف الفقهاء في ذلك، فذهب الحنفية إلى أنه يجب على أهل البلد أن يتفقوا على واحد منهم يجعلونه والياً فيولّي قاضياً، أو يكون هو الذي يقضي بينهم‏.‏

ويرى المالكية أنه إذا تعذر وجود الإمام أو الاتّصال به، يتمّ عقد التولية من ذوي الرأي وأهل العلم والمعرفة والعدالة لرجل منهم كملت فيه شروط القضاء، ويكون عقدهم نيابةً عنه للضرورة الداعية إليه‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ إذا خلا البلد من قاض، فقلد أهله على أنفسهم قاضياً منهم كان تقليدهم له باطلاً إن كان في العصر إمام، ويجوز في هذه الحالة أن ينظر بينهم متوسّطاً مع التراضي - لا ملزماً - وإن خلا العصر من إمام فإن كان يرجى أن يتجدد إمام بعد زمان قريب كان تقليد القاضي باطلاً، وإن لم يرج تجديد إمام قريب وأمكنهم أن يتحاكموا إلى قاضي أقرب البلاد إليهم كان تقليدهم للقاضي باطلاً، ويكون تقليدهم للقاضي جائزاً إذا اجتمع على التقليد جميع أهل الاختيار منهم، وأمكنهم نصره وتقوية يده إذا لم يمكنهم التحاكم إلى غيره، فإن قلده بعضهم نظر في باقيهم إن ظهر الرّضا منهم صح التقليد وصاروا كالمجتمعين عليه، وإن ظهر منهم الإنكار بطل التقليد، فإن كان للبلد جانبان فرضي بتقليده أحد الجانبين دون الآخر صح تقليده في ذلك الجانب وبطل في الجانب الآخر لأن تميّز الجانبين كتميّز البلدين، فإذا صحت ولايته نفذت أحكامه ولزمت طوعاً وجبراً لانعقاد ولايته‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنه إذا خلا البلد من قاض، فاجتمع أهل البلد وقلدوا قاضياً عليهم، فإن كان الإمام مفقوداً صح ونفذت أحكامه عليهم، وإن كان موجوداً لم يصح، فإن لم يكن فتجدد بعد ذلك، لم يستدم هذا القاضي النظر إلا بعد إذنه، ولا ينقض ما تقدم من حكمه‏.‏

وإذا أراد وليّ الأمر تولية قاض فإن كان له خبرة بالناس ويعرف من يصلح للقضاء ولاه، وإن لم يعرف ذلك سأل أهل المعرفة بالناس، واسترشدهم على من يصلح، فإذا عرف عدالته ولاه، ويكتب له عهداً بما ولاه يأمره فيه بتقوى الله، والتثبّت في القضاء ومشاورة أهل العلم، وتصفّح أحوال الشّهود وتأمل الشهادات، وتعاهد اليتامى، وحفظ أموالهم وأموال الوقوف، وغير ذلك مما يحتاج إلى مراعاته‏;‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن»، وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعريّ في توليته القضاء‏.‏

اشتراط عدالة المولّي

24 - يرى الحنفية والحنابلة أنه لا تشترط عدالة المولِي ‏(‏بكسر اللام‏)‏ لأن ولاية الإمامة الكبرى تصحّ من كلّ برّ وفاجر فتصحّ ولايته كالعدل، ولأنها لو اعتبرت في المولي أفضى إلى تعذّرها بالكلّية فيما إذا كان غير عدل، لكن إذا كان المولي يمنعه عن القضاء بالحقّ فيحرم‏.‏ ونقل عن الإمام مالك ما يدلّ على أنه لا ينبغي للقاضي إذا ولاه أمير غير عدل أن يلي القضاء‏.‏ وقال العزّ بن عبد السلام‏:‏ إذا استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كلّه جلباً للمصالح العامة ودفعاً للمفاسد الشاملة‏.‏

ب - صفة عقد القضاء‏:‏

25 - إذا كان المولّي والمولى حاضرين فالعبرة باللفظ وفي حالة الغيبة تقوم الكتابة مقام اللفظ‏.‏

والألفاظ التي تنعقد بها الولاية صريح وكناية، فالصريح‏:‏ وليتك، وقلدتك، واستخلفتك واستنبتك، وهذا ما اتفق عليه الفقهاء، زاد الحنابلة‏:‏ رددت إليك وفوضت إليك وجعلت إليك الحكم‏.‏

والكناية نحو‏:‏ اعتمدت عليك، وعولت عليك، ورددت إليك وجعلت إليك وفوضت إليك ووكلت إليك وأسندت إليك، وقال بعضهم‏:‏ وعهدت إليك، وتحتاج الكناية إلى أن يقترن بها ما ينفي عنها الاحتمال مثل‏:‏ احكم فيما اعتمدت عليك فيه، وشبه ذلك‏.‏

وتمام العقد معتبر بقبول القاضي، فإن كان حاضراً كان قبوله بالقول على الفور، وإن كان غائباً جاز قبوله على التراخي، ويجوز قبوله بالقول مع التراخي، واختلف في صحة القبول بالشّروع في النظر، فَجوّزه بعضهم، وجعله كالنّطق، ولم يجزه آخرون حتى ينطق بالقبول، لأن الشّروع في النظر فرع يعقد الولاية، فلم ينعقد القبول بالشّروع‏.‏

ج - سلطة القاضي واختصاصه‏:‏

26 - للإمام أن يولّي القاضي عموم النظر في عموم العمل بأن يولّيه سائر الأحكام بسائر البلاد‏.‏ ويجوز أن يولّيه عموم النظر في خصوص العمل، فيقلّده النظر في جميع الأحكام في بلد بعينه، فينفذ حكمه فيمن سكنه ومن أتى إليه من غير سكانه‏.‏

ويجوز أن يقلّده خصوص النظر في عموم العمل فيقول مثلاً‏:‏ جعلت إليك الحكم في المداينات خاصةً في جميع ولايتي، أو يجعل حكمه في قدر من المال نحو أن يقول‏:‏ احكم في المائة فما دونها‏.‏

ويجوز أن يولّيه خصوص النظر في خصوص العمل كأن يولّيه قضاء الأنكحة في مدينة بعينها أو شطر منها‏.‏

الولاية العامة

27 - إن كانت ولاية القاضي عامةً مطلقة التصرّف في جميع ما تضمنته فنظره يشتمل على عشرة أحكام‏:‏

أحدها‏:‏ فصل المنازعات، وقطع التشاجر والخصومات، إما صلحاً عن تراض أو إجباراً بحكم باتّ‏.‏

الثاني‏:‏ استيفاء الحقوق من الممتنع منها، وإيصالها إلى مستحقّها بعد ثبوت استحقاقها‏.‏ الثالث‏:‏ ثبوت الولاية على من كان ممنوعاً من التصرّف، لجنون أو صغر، والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس، حفظاً للأموال على مستحقّها‏.‏

الرابع‏:‏ النظر في الأوقاف بحفظ أصولها، وتنمية فروعها، وقبضه غلتها، وصرفها في سبلها، فإن كان عليها مستحقّ للنظر رعاه، وإن لم يكن تولاه‏.‏

الخامس‏:‏ تنفيذ الوصايا على شرط الموصي فيما أباحه الشرع، فإن كانت لمعينين نفذها بالإقباض، وإن كانت لغير معينين كان تنفيذها إلى اجتهاد النظر‏.‏

السادس‏:‏ تزويج الأيامى بالأكفاء إذا عدم الأولياء‏.‏

السابع‏:‏ إقامة الحدود على مستحقّيها، فإن كانت من حقوق الله تعالى تفرد باستيفائه من غير مطالب، إذا ثبت بالإقرار أو البيّنة، وإن كانت من حقوق الآدميّين وقفت على طلب مستحقّيها‏.‏ الثامن‏:‏ النظر في مصالح عمله، من الكفّ عن التعدّي في الطّرقات والأفنية، وإخراج الأجنحة والأبنية، وله أن ينفرد بالنظر فيها وإن لم يحضر خصم‏.‏

التاسع‏:‏ تصفّح شهوده وأمنائه، واختبار النائبين عنه من خلفائه‏.‏

العاشر‏:‏ التسوية في الحكم بين القويّ والضعيف، والشريف والمشروف ولا يتبع هواه في الحكم‏.‏

الولاية الخاصة

28 - إذا كانت ولاية القاضي خاصةً فهي مقصورة النظر على ما تضمنته، كمن جعل له القضاء في بعض ما تقدم من الأحكام، أو في الحكم بالإقرار دون البيّنة، أو في الدّيون دون قضايا النّكاح، أو في مقدار من المال، فيصحّ التقليد، ولا يجوز أن يتعداه لأنها ولاية، فصحت عموماً وخصوصاً كالوكالة، وعلى ذلك فالقضاء يقبل التقييد والتعليق ويتخصص بالزمان والمكان والخصومة، فلو أمر - وليّ الأمر - بعدم سماع الدعوى عند الإنكار بعد خمس عشرة سنةً لم تسمع، ولو سمعها القاضي لم ينفذ حكمه، ولو جعل ولاية القاضي مقصورةً على الحكم بين شخصين استمرت ولايته عليهما باقيةً ما كان التشاجر بينهما باقياً، فإذا بت الحكم بينهما زالت ولايته، ويجوز أن يحدّد عمل القاضي بيوم أو أيام معينة في الأسبوع، كأن يقلد النظر في يوم السبت خاصةً فيجوز له النظر فيه بين جميع الخصوم، فإذا خرج يوم السبت لم تزل ولايته لبقائها على أمثاله من الأيام، وإن كان ممنوعاً من النظر فيما عداه‏.‏

د - تقييد القاضي بمذهب معين‏:‏

29 - إذا قلّد الإمام قاضياً وشرط عليه ألا يحكم إلا بمذهب بعينه، فلا يخلو ذلك أن يكون شرطاً في عقد التولية، كأن يشترط عليه أن لا يحكم إلا بمذهب أبي حنيفة مثلاً، أو يكون أمراً كقوله‏:‏ احكم بمذهب الشافعيّ، أو نهياً كقوله‏:‏ لا تحكم بمذهب أبي حنيفة، وقد اختلف الفقهاء في حكم ذلك، فذهب الحنفية إلى أن القاضي يحكم بمذهبه لا مذهب غيره، إذ يشترط عندهم لصحة القضاء أن يكون موافقاً لرأي القاضي - أي لمذهبه - مجتهداً كان أو مقلّداً، فلو قضى بخلافه لا ينفذ لكن الكاسانيّ قال‏:‏ إنه إذا كان مجتهداً ينبغي أن يصح ويحمل على أنه اجتهد فأداه اجتهاده إلى مذهب الغير، لكن إذا قيده السّلطان بصحيح مذهبه تقيد بلا خلاف، لكونه معزولاً عن غير ما قيده به، وهذا هو ما ذهب إليه متأخّرو الحنفية‏.‏

وقال المالكية‏:‏ إن اشترط الإمام ذلك الشرط في جميع الأحكام فالعقد باطل والشرط باطل، سواء قارن الشرط عقد الولاية أو تقدمه ثم وقع العقد، أما إذا كان الشرط خاصّاً في حكم بعينه فلا يخلو الشرط أن يكون أمراً أو نهياً، فإن كان أمراً مثل أن يقول‏:‏ وليتك على أن تقتص من المسلم بالكافر فيفسد العقد والشرط، وإن كان نهياً فهو على ضربين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن ينهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر مثلاً، ولا يقضي فيه بقود ولا بإسقاطه، فهو جائز لأنه قصر ولايته على ما عداه، وأخرجه من نظره‏.‏

الثاني‏:‏ أن ينهاه عن الحكم فيه، وينهاه عن القضاء في القصاص، فيصح العقد، ويخرج المستثنى عن ولايته فلا يحكم فيه بشيء، قال ابن فرحون‏:‏ ومن الفقهاء من يقول‏:‏ تثبت ولايته عموماً ويحكم فيه بما نهاه عنه بمقتضى اجتهاده، كلّ هذا إذا كان شرطاً في الولاية، فأما لو أخرجه مخرج الأمر والنهي فقال‏:‏ وليتك القضاء على أن تحكم بمذهب مالك فالولاية صحيحة والشرط باطل، ويجب أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده، سواء وافق شرطه أو خالفه، وأضاف ابن فرحون إن ذلك هو فيما إذا كان القاضي من أهل الاجتهاد والنظر، كما هو الحال في قضاة الزمان السابق، أمثال القاضي أبي الوليد الباجيّ، وابن رشد، وأبي بكر بن العربيّ، وعياض، وقد عدم هذا النمط في زماننا من المشرق والمغرب، ولذلك نقل عن ولاة قرطبة أنهم كانوا إذا ولوا رجلاً القضاء شرطوا عليه أن لا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده، وإن سحنوناً كان يشترط على من يولّيه القضاء أن لا يقضي إلا بقول أهل المدينة ولا يتعدى ذلك‏.‏ وذهب الشافعية إلى أنه إذا كان الشرط عامّاً، بأن قال له‏:‏ لا تحكم في جميع الأحكام إلا بمذهب الشافعيّ مثلاً، كان هذا الشرط باطلاً، وهل يبطل عقد التولية‏؟‏ نظر، إن كان عدل عن لفظ الشرط، وأخرجه مخرج الأمر كقوله‏:‏ احكم بمذهب الشافعيّ، أو مخرج النهي كقوله‏:‏ لا تحكم بمذهب أبي حنيفة صح التقليد، أما إن كان التقليد خاصّاً في حكم بعينه، فإن كان أمراً كقوله‏:‏ أقد من المسلم بالكافر، كان هذا الشرط باطلاً، وإن قرنه بلفظ الشرط بطل التقليد، وإن كان نهياً، نظر‏:‏ إن نهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر، ولا يقضى فيه بوجوب قود ولا بإسقاطه، فهذا الشرط باطل والتقليد صحيح، وإن لم ينهه عن الحكم فيه ونهاه عن القصاص ففيه وجهان‏.‏

وقال الماورديّ‏:‏ إذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتّهمة، وأرضى للخصم، هذا وإن كانت السّياسة تقتضيه فأحكام الشرع لا توجبه، لأن التقليد فيها محظور، والاجتهاد فيها مستحقّ‏.‏ وذهب الحنابلة إلى أنه لا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ‏}‏، والحقّ لا يتعين في مذهب، وقد يظهر الحقّ في غير ذلك المذهب‏.‏ فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط وصحت الولاية، وحكى ابن قدامة وجهاً آخر في صحة الولاية‏.‏

هـ - تعدّد القضاة‏:‏

30 - يجوز أن يولّي الإمام قاضيين أو أكثر في بلد واحد، ويخص كل واحد منهم بمكان أو زمان أو نوع، بأن يولّي أحدهم عقود الأنكحة، والآخر الحكم في المداينات، وآخر النظر في العقار، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء‏.‏

وإنما الخلاف فيما إذا ولى قاضيين أو أكثر عملاً واحداً في مكان واحد‏:‏ فذهب الحنفية في رأي إلى أنه يجوز أن يشترك القاضيان في قضية، وفي رأي آخر قالوا‏:‏ لا يجوز، لأنهما قد يختلفان فلا تنفصل الحكومة، وقد نصت مجلة الأحكام العدلية على أنه ليس لأحد القاضيين المنصوبين لاستماع الدعوى أن يستمع تلك الدعوى وحده ويحكم بها، وإذا فعل لا ينفذ حكمه‏.‏ وقال المالكية‏:‏ يجوز للإمام نصب قضاة متعدّدين يستقلّ كلّ واحد منهم بناحية يحكم فيها بجميع أحكام الفقه، بحيث لا يتوقف حكم واحد منهم على حكم الآخر، أو قضاة متعدّدين يستقلّ كلّ واحد منهم ببلد أو خاصّ بناحية أو نوع، فعلم من هذا أنه لا بد من الاستقلال في العامّ والخاصّ، فلا يجوز للخليفة أن يشرك بين قاضيين، هذا إذا كان التشريك في كلّ قضية، بل ولو كان في قضية واحدة بحيث يتوقف حكم كلّ واحد على حكم صاحبه‏;‏ لأن الحاكم لا يكون نصف حاكم، وصرح ابن فرحون بعدم صحة عقد الولاية لحاكمين معاً على أن يجتمعا ويتفقا على الحكم في كلّ قضية إذا كان ذلك قد شرط في عقد ولايتهما‏.‏

وللشافعية في ذلك وجهان‏:‏ أحدهما - وهو الأصحّ - جواز ولاية القاضيين وإن لم يخصّص الإمام كلّاً من القاضيين بمكان أو نوع أو زمان، وصححه الإمام والغزاليّ وابن أبي عصرون إلا أن يشترط اجتماعهما على الحكم فلا يجوز لما يقع بينهما من الخلاف في محلّ الاجتهاد، فلا تنفصل الخصومات وقالوا‏:‏ لو ولى الإمام مقلّدين لإمام واحد - على القول بجواز تولية المقلّد - فيجوز وإن شرط اجتماعهما على الحكم‏;‏ لأنه لا يؤدّي إلى اختلاف‏;‏ لأن إمامهما واحد، حتى لو كان لإمامهما قولان‏;‏ لأن كلّاً منهما سيحكم بأصحّ القولين‏.‏

وللحنابلة وجهان‏:‏ أحدهما عدم الجواز‏;‏ لأن ذلك يؤدّي إلى إيقاف الحكم والخصومات، لأنهما يختلفان في الاجتهاد، ويرى أحدهما ما لا يرى الآخر، والوجه الثاني ورجحه ابن قدامة جواز التولية إذا كان القاضيان لا يشتركان في القضية الواحدة معلّلاً ذلك بقوله‏:‏ إنه يجوز للقاضي أن يستخلف في البلدة التي هو فيها خليفتين في موضع واحد، فالإمام أولى لأن يولّي قاضيين لأن توليته أقوى‏;‏ ولأن كل حاكم يحكم باجتهاده بين المتخاصمين إليه، وليس للآخر الاعتراض عليه، ولا نقض حكمه فيما خالف اجتهاده‏.‏

وإذا تنازع الخصمان في الرفع لأحد القضاة - في حال تعدّدهم - فهل القول للمدعي أو للمدعى عليه‏؟‏ للفقهاء في ذلك أقوال تفصيلها في مصطلح ‏(‏دعوى ف / 15 - 16‏)‏‏.‏

و - تعيين قاضي القضاة‏:‏

31 - نشأت وظيفة قاضي القضاة أيام الدولة العباسية، إذ عيّن القاضي أبو يوسف - صاحب الإمام أبي حنيفة - قاضياً للقضاة وهو أول من لقّب بهذا اللقب، فكان يرشّح القضاة للتعيين في البلاد، ويقوم بمراقبة أعمالهم حتى لا يتجاوزوا حدود عملهم، ولا يُخِلّوا ببعضه، وقد كان الإمام - من قبل - هو الذي يراعي أعمال القضاة، ويتتبع أحكامهم حتى تجري على السداد، من غير تجاوز ولا تقصير، وكان هذا الأمر يشقّ على الإمام، فمن ثَمَّ كان له أن يندب من يقوم بهذا العمل، ليكون نائباً عنه في مراعاة القضاة، وقد ذكر بعض الفقهاء أنه ينبغي لقاضي القضاة أن يتفقد قضاته، ونوابه، فيتصفح أقضيتهم، ويراعي أمورهم وسيرتهم في الناس‏.‏

ز - آداب القاضي‏:‏

32 - آداب القاضي‏:‏ التزامه بما يجب عليه أو يسنّ له أن يأخذ به نفسه أو أعوانه من الآداب والقواعد التي تضبط أمور القضاء، وتحفظ القاضي عن الجور والميل، وتهديه إلى بسط العدل ورفع الظّلم، وتنأى به عن مواطن التّهم والشّبهات، فيسنّ كون القاضي قويّاً من غير عنف، ليّناً من غير ضعف، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، ويكون حليماً متأنّياً، ذا فطنة وتيقّظ، لا يؤتى من غفلة، ولا يخدع لغرة، صحيح السمع والبصر، عالماً بلغات أهل ولايته، عفيفاً ورعاً نزهاً، بعيداً عن الطمع، صدوق الجهة، ذا رأي ومشورة، لا يكون جباراً ولا عسوفاً، فيقطع ذا الحجة عن حجته، قال عليّ رضي الله عنه‏:‏ لا ينبغي أن يكون القاضي قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال‏:‏ عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم، وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال‏:‏ لا ينبغي للرجل أن يكون قاضياً حتى يكون فيه خمس خصال، فإن أخطأته واحدة كانت فيه وصمة وإن أخطأته اثنتان كانت فيه وصمتان حتى يكون عالماً بما كان قبله مستشيراً لذي الرأي ذا نزاهة عن الطمع حليماً عن الخصم محتملاً للأئمة‏.‏

وآداب القضاء كثيرة، والأصل فيها ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ومن ذلك كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريّ لما ولاه القضاء وقد نقله ابن القيّم في كتاب إعلام الموقّعين ونصّه‏:‏ إن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلّم بحقّ لا نفاذ له، وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البيّنة على المدعي، واليمين على من أنكر، والصّلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، ومن ادعى حقّاً غائباً أو بيّنةً فاضرب له أمداً ينتهي إليه، فإن بَيّنه أعطيته بحقّه، وإن أعجزه ذلك، استحللت عليه القضية، فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعماء، ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحقّ خير من التمادي في الباطل، والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلود في حدّ أو مجرب عليه شهادة زور أو ظنين في ولاء أو قرابة، فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبيّنات والأيمان، ثم الفهمَ الفهمَ فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد إلى أحبّها إلى الله فيما ترى وأشبهها بالحقّ، وإياك والغضب والقلق والضجر، والتأذّي بالناس والتنكّر عند الخصومة، ‏"‏ أو الخصوم ‏"‏، فإن القضاء في مواطن الحقّ يوجب الله به الأجر ويحسن به الذّكر، فمن خلصت نيته في الحقّ ولو كان على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس في نفسه شانه الله، فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصاً، فما ظنّك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته‏.‏

ولا خلاف بين الفقهاء في أنه لا ينبغي للقاضي أن يقضي وهو غضبان لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان»‏.‏

وفي معنى الغضب كلّ ما شغل فكره من الجوع المفرط والعطش الشديد والوجع المزعج أو لشعوره بشدة النّعاس أو الحزن أو السّرور، فهذه كلّها أمور تمنع حضور القلب واستيفاء الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحقّ في الغالب، فهي في معنى الغضب المنصوص عليه، فتجري مجراه، أما إن استبان له الحقّ واتضح الحكم ثم عرض الغضب لم يمنعه‏;‏ لأن الحق قد ظهر له قبل الغضب فلا يؤثّر فيه، ويرى الحنفية أن تلك الأمور من آداب القضاء، أما الشافعية وهو قول عند المالكية فيرون أنه يكره للقاضي أن يقضي وهو على تلك الحالة‏.‏

أما الحنابلة فيرون الحرمة وهو قول عند المالكية‏.‏

وإذا عرضت للقاضي حالة من تلك الحالات وهو في مجلس القضاء جاز له وقف النظر في الخصومات والانصراف‏.‏

ح - هيئته وزيّه‏:‏

33 - يجتهد القاضي أن يكون جميل الهيئة ظاهر الأبهة وقور المشية والجلسة، حسن النّطق والصمت، محترزاً في كلامه عن الفضول وما لا حاجة إليه به، ويكون ضحكه تبسّماً، ونظره فراسةً وتوسّماً، وإطراقه تفهّماً ويلبس ما يحسن من الزّيّ ويليق به، ويكون ذا سمت وسكينة ووقار من غير تكبّر ولا إعجاب بنفسه‏.‏

وينبغي أن يكون نظيف الجسد، بأخذ شعره، وتقليم ظفره، وإزالة الرائحة المكروهة من بدنه ويستعمل من الطّيب ما يخفى لونه، وتظهر رائحته‏.‏

ط - مشاركته في المناسبات العامة‏:‏

34 - يسنّ له إجابة دعوة عامة كوليمة عرس وختان‏;‏ لأن إجابتها سنة ولا تهمة فيها، ويشهد الجنازة لأن ذلك حقّ الميّت على المسلمين فيحضرها إلا إذا شغلته عن القضاء، ويعود المرضى لأن ذلك حقّ المسلمين على المسلمين ولا تهمة فيه‏.‏

ولا يجيب الدعوة الخاصة لأنها جعلت لأجله، والخاصة هي التي لا يتخذها صاحبها لولا حضور القاضي، وقيل‏:‏ كلّ دعوة اتّخذت في غير العرس والختان فهي خاصة، وذكر الطحاويّ أنه على قول أبي حنيفة وأبي يوسف لا يجيب الدعوة الخاصة للقريب، وعلى قول محمد يجيب لأن إجابة دعوة القريب صلة للرحم، وإنما لا يجيب الدعوة الخاصة للأجنبيّ إذ لا فرق بينها وبين الهدية‏.‏

وللقاضي زيارة الأهل والصالحين والإخوان وتوديع الغازي والحاجّ لأن ذلك قربة وطاعة، وقد وعد الشرع على ذلك أجراً عظيماً فيدخل القاضي في ذلك ما لم يشغله عن الحكم‏;‏ لأن اشتغاله بالفصل بين الخصوم ومباشرة الحكم أولى‏.‏

ي - الهدية للقاضي‏:‏

35 - يحرم على القاضي قبول الهدية من الخصمين، أو من أحدهما‏.‏

أما من ليست له خصومة فإن كان من خواصّ قرابته أو صحبته أو جرت له عادة بمهاداته قبل القضاء فلا بأس، وإن لم تجر له عادة بذلك لم يجز له القبول، والأولى إن قبل الهدية - ممن ليست له خصومة - أن يعوّض المهدي عنها، ويحسن به سدّ باب قبول الهدايا من كلّ أحد‏;‏ لأن الهدية تورث إدلال المهدي وإغضاء المهدى إليه، إلا الهدية من ذوي الرحم المحرم - ممن ليست له خصومة - فالأولى قبولها لصلة الرحم‏;‏ ولأن في ردّها قطيعةً للرحم وهي حرام‏.‏

36 - وأما الرّشوة فحرام بلا خلاف لحديث‏:‏ «لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم»، وإذا قضى في حادثة برشوة لا ينفذ قضاؤه في تلك الحادثة وإن قضى بالحقّ، وسقطت عدالته، وإن ارتشى ولد القاضي أو كاتبه أو بعض أعوانه‏:‏ فإن كان بأمره ورضاه فهو كما لو ارتشى بنفسه ويكون قضاؤه مردوداً، وإن كان بغير علم القاضي نفذ قضاؤه ورد ما قبضه المرتشي‏.‏

ك - مجلس القضاء‏:‏

37 - يستحبّ أن يتخذ القاضي له مجلساً فسيحاً بارزاً مصوناً من أذى حرّ وبرد لائقاً بالوقت والقضاء، ويكون مصوناً أيضاً من كلّ ما يؤذي من الروائح والدّخان والغبار، كأن يكون المكان داراً واسعةً وسط البلد إن أمكن، ليكون ذلك أوسع على الخصوم وأقرب إلى العدل‏.‏

القضاء في المسجد

38 - يرى الحنفية والحنابلة أن القاضي يجلس للحكم في المسجد لأنه أيسر للناس، وأسهل عليهم للدّخول عليه وأجدر أن لا يحجب عنه أحد، قال أبو حنيفة‏:‏ ينبغي للقاضي أن يجلس للحكم في المسجد الجامع لأنه أشهر المواضع ولا يخفى على أحد، ولا بأس أن يجلس في بيته ويأذن للناس ولا يمنع أحداً من الدّخول عليه‏.‏

واحتجّوا في قضاء القاضي في المسجد بما روي عن عمر وعثمان وعليّ أنهم كانوا يقضون في المسجد‏.‏

والمسألة عند المالكية ذات طريقتين‏:‏ الأولى لمالك في الواضحة‏:‏ استحباب الجلوس في رحاب المسجد وكراهته في المسجد ليصل إليه الكافر والحائض، والثانية‏:‏ استحباب جلوسه في نفس المسجد وهي ظاهر قول المدونة ‏"‏ والقضاء في المسجد من الحقّ والأمر القديم ‏"‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ‏}‏، قال الدّسوقيّ‏:‏ والمعول عليه ما في الواضحة‏.‏

ويرى الشافعية كراهية اتّخاذ المسجد مجلساً للقضاء‏;‏ لأن مجلس القاضي لا يخلو عن اللغط وارتفاع الأصوات، وقد يحتاج إلى إحضار المجانين والصّغار، والمسجد يصان عما قد يفعله أولئك من أمور فيها مهانة به، أما إذا صادف وقت حضور القاضي إلى المسجد لصلاة أو غيرها رفع الخصومة إليه، فلا بأس بفصلها، وعلى ذلك يحمل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وعن خلفائه في القضاء في المسجد‏.‏

ل - وقت عمله ووقت راحته‏:‏

39 - لا بأس أن ينظر القاضي في أمور دنياه التي تصلحه ولا بد له منها في كلّ الأيام في غير أوقات قضائه، ولا بأس أن يطلع إلى قرابته اليومين والثلاثة، ويتخذ لجلوسه وقتاً معلوماً لا يضرّ بالناس في معايشهم، ويجوز أن يعيّن أياماً للقضاء يحضر فيها الناس ويعرفونه بها، فيقصد في ذلك اليوم، وليس عليه صرف زمانه أجمع إلى القضاء، ولا ينبغي أن يحكم في الطريق إلا في أمر استغيث به فيه فلا بأس أن يأمر وينهى ويسجن، فأما الحكم الفاصل فلا، وأجازه أشهب من المالكية، ولا ينبغي أن يجلس في العيدين وما قارب ذلك كيوم عرفة والأيام التي تكون للناس أيام سرور أو حزن، وكذلك إذا كثر الوحل والمطر، قال بعض المتأخّرين‏:‏ وكذلك يوم الجمعة ما لم يعرض عليه أمر يخاف عليه الفوات، وما لا يسعه إلا تعجيل النظر فيه‏.‏

ونقل عن الإمام مالك أنه قال‏:‏ ينبغي للقاضي أن يكون جلوسه في ساعات من النهار، لأنّي أخاف أن يكثر فيخطئ، وليس عليه أن يتعب نفسه نهاره كله‏.‏

م - كراهية البيع والشّراء‏:‏

40 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يكره للقاضي أن يبيع أو يشتري إلا بوكيل لا يعرف به لئلا يحابي والمحاباة كالهدية، وليس للقاضي ولا لوال أن يتجر، لحديث أبي الأسود المالكيّ عن أبيه عن جدّه مرفوعاً‏:‏ «ما عدل وال اتجر في رعيته»، وسواء أكان البيع والشّراء في مجلس حكمه أم في داره، لكن إذا باع القاضي أو اشترى فلا يردّ منه شيء إلا أن يكون على وجه الإكراه، أو فيه نقيصة على البائع فيردّ البيع والابتياع‏.‏

ولا ينبغي أن يكون وكيل القاضي معروفاً لأنه يفعل مع وكيله من المسامحة ما يفعل معه‏.‏ ويرى الحنفية وهو الراجح عند المالكية قصر الكراهية على حصول البيع والشّراء في مجلس الحكم‏.‏

ن - واجب القاضي تجاه الخصوم‏:‏

41 - يجب على القاضي أن يسوّي بين الخصمين في الجلوس، مجلسها بين يديه لا عن يمينه ولا عن يساره‏;‏ لأنه لو فعل فقد قرب أحدهما في مجلسه، ولأن لليمين فضلاً عن اليسار، وأن يسوّي بينها في النظر والنّطق والخلوة فلا ينطلق بوجهه إلى أحدهما، ولا يسار أحدهما، ولا يخلو بأحدهما في منزله، ولا يضيّف أحدهما، فيعدل بين الخصمين في هذا كلّه، لما في ترك العدل فيه من كسر قلب الآخر، ويتهم القاضي به، ليس له تأخير الحكم في الخصومات بغير عذر، ولا يجوز له أن يحتجب إلا في أوقات الاستراحة‏.‏

وليس له أن يحكم لأحد من والديه ولا من مولوديه لأجل التّهمة، ويحكم عليهم لارتفاعها، ويحكم لعدوّه، ولا يحكم عليه‏.‏

معاونو القضاة

42 - يحتاج القاضي في عمله إلى من يساعده في الأعمال القضائية سواء ما اتصل منها بموضوع الحكم الواجب تطبيقه على النازلة - وهم الفقهاء الذين يستشيرهم - أو ما يتعلق بالأعمال المساعدة مثل الكاتب الذي يسجّل المحضر، وأعوان القاضي والحاجب، والمزكّي والمترجم‏.‏